فضاء الأطلس المتوسط نيوز/ بقلم الاستاذ محمد خلاف
على أصابع الجرح أعود إلى ماضي المدينة الجميل، وحدها الذاكرة أصبحت أثقل حملاً، ولكن من سنحاسب على ذاكرة طمست عنوة؟ وأصبحت المدينة تنتج كل مبرّرات الموت فبقدر ما تطول علاقتنا بالفقيه بن صالح بقدر ما نتمكن من مغالبة الخواء الداخلي، وبحبها والذكريات بها، نلامس أشياء جوهرية دفينة يستبعد بها الزمن، لاربعا وحبها غيبوبة متسامية.
الأكثر وجعاً الآن ليس مالم يكن يوماً لنا، بل ما امتلكناه برهة من الزمن، وسيظلّ ينقصنا إلى الأبد.
ففي دفتر عتيق له أريج خاص بزمن بسيط، عفوي، وجميل... زمن محرر من عبث الجديد والدخيل، وإبان الاحتفال بالمناسبات الوطنية خصوصا عيد العرش، شهر مارس حيث حرية وصخب ورقص ونشاط... وصافنات من الجياد، وخيل مطهمة، وتبوريدة، وخيام، وأسواق ومسارح فرجوية يحج إليها الناس من كل القرى البعيدة والقريبة بنوايا نقية ومعاني عذبة؛؛؛؛ كان السيرك يحط الرحال بلاربعا في الساحة المجاورة للمستشفى، كلوحة تراثية تزين المكان في أجواء حاشدة واستثنائية بها الكثير من الرشاقة والعذوبة... بتفاصيل الحياة البسيطة البعيدة عن تعقيدات زمن السرعة والتقنية، فكان للقمار مكانه ومذمنيه من هواة الربح السريع مرورا بأصحاب النرد(الدادوس)، والخيط، والكارطة، في دكاكين صغيرة ببابها نصف ستار لأنهم يدركون نظرة الناس إليهم، بزبناء وهميين هم أرانب سباق فقط... في علاقة الكذاب والطماع... وكانت منصة مخصصة لمسابقات ربح الأواني المنزلية المصفوفة، بجابنها عجلة الروليت محدد الربح، يزيدها إثارة ذلك الرجل الذي يرقص منتحلا شخصية فتاة جميلة على أنغام موسيقى شعبية، في همس هسيس بين المتفرجين، يستدرجهم لشراء أوراق اليناصيب، ورؤية مفاتنه، ومسرح الآنسة حنان وحكاية تقطيع جسدها إربا إربا... إضافة إلى مظاهر أخرى جانبية منها ألعاب القوة مجسدة في دفع عربة صغيرة في اتجاه تصاعدي واصطدامها بحاحز به مفرقعات... كذلك صاحب الفأر الأبيض أو فار "السويرتي مولانا تربح موس ولا ماݣانة؟!"...ثم ألعاب الربح السريع حيث رمي النقود في إناء كبير مفعم بالماء بها دوائر مقلوبة حمراء بها أرقام بيضاء رابحة غالبا تكون أرقام تترواح بين الصفر والعشرة في دهاء من مسير المسابقة، تكون رابحا فور ثبوت ما ألقيته فوقها من عملة معدنية... ثم ألعاب أخرى مع صاحب القصبة والخيط وقنينات المشروبات...و صاحب البندقية والطباشير، وألعاب الأطفال المتنوعة كالأرجوحات بأشكال حيوانات... في أجواء بهجة وضحكات عفوية... غير أن بالغ الاهتمام ينصب على السيارات المتحركة بالكهرباء واصطدامها ببعضها زمنا جميلا يتسابق الكبار على تذاكرها قبل الصغار حتى أن هناك من كان يصعد إليها ويضع معطفه في الكرسي المجاور في عفوية وأحلام يقظة، ثم حائط الموت أو موطور الخطر والشجاعة، أو علي بلحسين حيث شكل الحلبة المثير وصوت الدراجة النارية، وصورتها ثم كلمات منبعثة من مكبر الصوت (إيو إيوا الفراجة غادا تبدا لي ماعندو ورقة ماعندو بلاصة ها البطل ماشادو خيط ماشادو شريط)، في تسابق على التذكرة وصعود الدرج الحديدي إلى المنصة في مشاهد كلها متعة واندهاش وإعجاب وخوف... في تحد كله إقدام وجرأة ومغامرة على متن دراجة نارية تجوب حلبة خشبية صعودا ونزولا تحت هدير صاخب على مشارف موت، في استسلام وانبهار ووضع الأيادي على القلوب حتى أن بعض المتفرجين لايقوون على متابعة الحصة، عندما يبدأ البطل بعيون معصبة في حمل الرايات، ورفع اليدين عن المقود، والوقوف على مقعد الدراجة التي تسير بسرعة جنونية حيث تكون قد عدلت كاملة وبطريقة ترفع من قوة تحملها.. تنتهي الحصة ولاتنتهي أطراف الحديث عن قوة وجسارة البطل، وعن جماليات المكان التي لا تنتهي لروعة أوتارها دون مبالغات أو تكاليف، في زمن تلاقت الآيادي في تسابق حول آنية واحدة للغداء، وتسابقت حول ارتشاف كؤوس الشاي على حصير مقاهي "عيد العورش".
وتسامرت على حلو الحديث في سلام داخلي جميل على مخدات بالية منحتنا جميعا راحة بال في لاربعا العذراء قبل أن تطفو القمامة على السطح، ويطفو تعامل الزبانية، َمن غش وخداع ونهب وسلب للمال العام وكراهية، وتطفو ثورة معلوماتية خطيرة، وتسونامي قنوات التواصل الاجتماعي والمعلوماتي أفقدنا روحانية المناسبات الدينية، واحتفالية المناسبات الوطنية والاجتماعية.
كما أفقدتنا السياسة بالفقيه بن صالح براءة الاحتفال مع موسم ألف فرس وفرس، وتركت الخيل مكبلة إلى حين، وزعرطت الحمير دون توقف!.